فصل: تفسير الآيات رقم (1- 3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض‏}‏ أي إذا فرغ من صلاة الجمعة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ‏{‏وابتغوا من فضل الله‏}‏ يعني الرزق وهذا أمر إباحة قال ابن عباس إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصل إلى العصر وقيل قوله فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله وقيل وابتغوا من فضل الله هو طلب العلم وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين ‏{‏واذكروا الله كثيراً‏}‏ أي إذا فرغتم من الصلاة ورجعتم إلى التجارة والبيع والشراء فاذكروا الله كثيراً قيل باللسان وقيل بالطاعة قيل لا تكون من الذاكرين الله كثيراً حتى تذكره قائماً وقاعداً ومضطجعاً ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن جابر قال «بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا إثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً» وفي رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً فجاءت عير من الشام وذكر نحوه» وفيه «إلا اثنا عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر» ولمسلم «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقدمت سويقة قال فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم» وذكر الحديث وهو حجة من يرى صحة الجمعة باثني عشر رجلاً‏.‏

وأجيب عنه بأنه ليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون الحديث حجة لاشتراط هذا العدد وقال ابن عباس في رواية عنه لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط قال الحسن وأبو مالك «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فلما رأوه بالبقيع قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط فيهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً» وقال مقاتل «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم لم تبق عاتق بالمدينة إلا أتته وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وزيت وغيره وينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم كم بقي في المسجد‏؟‏ فقالوا اثني عشر رجلاً وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء فأنزل الله هذه الآية»

وأراد باللهو الطبل وكانت العير إذا قدمت استقبلوها بالطبل والتصفيق، وقوله تعالى انفضوا أي تفرقوا وذهبوا نحوها والضمير في إليها راجع إلى التجارة لأنها أهم إليهم وتركوك قائماً اتفقوا على أن القيام كان في الخطبة للجمعة قال علقمة «سئل ابن مسعود أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً‏؟‏ قال أما تقرؤون وتركوك قائماً» قال العلماء الخطبة فريضة في صلاة الجمعة وقال داود الظاهري هي مستحبة ويجب أن يخطب الإمام قائماً خطبتين يفصل بينهما بجلوس وقال أبو حنيفة وأحمد لا يشترط القيام ولا القعود وتشترط الطهارة في الخطبة عند الشافعي في أحد القولين وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة أن يحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله هذه الثلاث شروط في الخطبتين جميعاً ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ويدعو للمؤمنين في الثانية ولو ترك واحدة من هذه الخمسة لم تصح خطبته ولا جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة وهو مأمور بالخطبة والسنة للإمام إذا صعد المنبر أن يستقبل الناس وأن يسلم عليهم خلافاً لأبي حنيفة ومالك وهل يحرم الكلام في حال الخطبة فيه خلاف بين العلماء والأصح أنه يحرم على المستمع دون الخاطب ويستحب أن يصلي تحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب خلافاً لأبي حنيفة ومالك‏.‏

‏(‏ذكر الأحاديث الواردة الدالة على هذه الأحكام‏)‏

‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يعقد بينهما» وفي رواية أخرى «كان يخطب يوم الجمعة وهو قائم ثم يقوم فيتم كما يفعلون الآن» ‏(‏م‏)‏ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس» زاد في رواية «فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب»، ‏(‏م‏)‏ عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن الحكم يخطب جالساً فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً‏}‏، ‏(‏م‏)‏ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً» زاد أبو داود ويقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

«كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» أخرجه أبو داود والترمذي ولأبي داود عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً» وفي رواية أن يونس سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال فيه «ومن يعصيهما فقد غوى ونسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه إنما نحن به وله» أخرجه أبو داود ‏(‏م‏)‏ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كانت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول» بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ «عن ابن مسعود رضي الله عنه قال» كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا أخرجه الترمذي ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت والإمام يخطب فقد لغوت» عن نافع أن ابن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا أخرجه مالك في الموطأ قال ابن شهاب خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام «فأما صفة صلاة الجمعة» فركعتان يجهر فيهما بالقراءة ولجواز الجمعة خمس شروط الوقت وهو وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإن فقد شرط من هذه الشروط لخمس يجب أن يصلي ظهراً ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل تمام العدد وهو أربعون عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انفض واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة بل يصلي الظهر ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو نقص واحد قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها ظهراً، وفيه قول آخر وهو أنه إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وقيل إن بقي معه واحد أتمها جمعة وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلى بهم الإمام ركعة أتمها جمعة وإن بقي وحده وإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعاً وإن انفض من العدد واحداً، وبه قال أبو حنيفة لكن في العدد الذي يشترط كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعاً ‏(‏خ‏)‏ عن أنس رضي الله عنه

سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المنافقون‏}‏ يعني عبد الله بن أبي سلول وأصحابه قالوا ‏{‏نشهد إنك لرسول الله‏}‏ وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعلم إنك لرسوله‏}‏ أي هو الذي أرسلك فهو عالم بك ‏{‏والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ يعني في قولهم نشهد إنك لرسول الله لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا وذلك لأن حقيقة الإيمان أن يواطئ اللسان القلب وكذلك الكلام فمن أخبر عن شيء واعتقد خلافه أو أضمر خلاف ما أظهر فهو كاذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه كذباً لأن قولهم خالف اعتقادهم ‏{‏اتخذوا أيمانهم جنة‏}‏ أي سترة يسترون بها من القتل ومعنى أيمانهم ما أخبر الله عنهم من حلفهم إنهم لمنكم وقولهم نشهد إنك لرسول الله ‏{‏فصدوا عن سبيل الله‏}‏ أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله وطاعة رسوله وقيل منعوا الناس عن الجهاد وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إنهم ساء ما كانوا يعملون‏}‏ يعني حيث آثروا الكفر على الإيمان ‏{‏ذلك بأنهم آمنوا‏}‏ أي في الظاهر وذلك إذا رأوا المؤمنين أقروا بالإيمان ‏{‏ثم كفروا‏}‏ أي في السر وذلك إذا خلوا مع المشركين وفيه تأكيد لقوله والله يشهد إنهم لكاذبون ‏{‏فطبع على قلوبهم‏}‏ أي بالكفر ‏{‏فهم لا يفقهون‏}‏ أي الإيمان وقيل لا يتدبرون القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا رأيتهم‏}‏ يعني المنافقين مثل عبد الله بن أبي ابن سلول ‏{‏تعجبك أجسامهم‏}‏ يعني أن لهم أجساماً ومناظر حسنة ‏{‏وإن يقولوا تسمع لقولهم‏}‏ أي فتحسب أنه صدق قال ابن عباس كان عبد الله بن أبي ابن سلول جسيماً فصيحاً ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله ‏{‏كأنهم خشب مسندة‏}‏ أي أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام شبههم بالخشب المسندة إلى جدر وليست بأشجار مثمرة ينتفع بها ‏{‏يحسبون كل صيحة عليهم‏}‏ يعني أنهم لا يسمعون صوتاً في العسكر بأن ينادي مناد أو تنفلت دابة أو تنشد ضالة إلا ظنوا من خبثهم وسوء ظنهم أنهم يرادون بذلك وظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب وقيل إنهم على خوف ووجل من أن ينزل فيهم أمر يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وتم الكلام عند قوله عليهم ثم ابتدأ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هم العدو فاحذرهم‏}‏ أي لا تأمنهم فإنهم وإن كانوا معك ويظهرون تصديقك أعداء لك فاحذرهم ولا تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ينقلون إليهم أسرارك ‏{‏قاتلهم الله‏}‏ أي لعنهم الله ‏{‏أنى يؤفكون‏}‏ أي يصرفون عن الحق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم‏}‏ أي أمالوها وأعرضوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار ‏{‏ورأيتهم يصدون‏}‏ أي يعرضون عما دعوا إليه ‏{‏وهم مستكبرون‏}‏ أي عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ‏{‏سواء عليهم أستغفرت لهم‏}‏ أي يا محمد ‏{‏أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏

‏(‏ذكر القصة‏:‏ في سبب نزول هذه الآية‏)‏

قال محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب السير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله تعالى بني المصطلق وأمكن منهم وقيل من قتل منهم ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين وأعان جهجاهاً رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيراً فقال عبد الله بن أبي الجعال وإنك لهناك فقال جعال وما يمنعني أن أفعل ذلك فغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم وهو غلام حديث السن فقال عبد الله بن أبي افعلوها قد نافرونا وكاثرنا في بلادنا والله ما مثلنا زائدة ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من حضر من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولتحولوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين فقال عبد الله بن أبي اسكت لقد كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال عبد الله بن أبي والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وإن زيداً لكاذب وكان عبد الله في قومه شريفاً عظيماً فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد وهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وفشت الملامة لزيد في الأنصار وكذبوه وقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ومقتوك وكان زيد يساير النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما بلغك ما قال صاحبك عبد الله بن أبي فقال أسيد وما قال‏؟‏ قال يزعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل فقال أسيد أنت والله يا رسول الله تخرجه هو والله الذليل وأنت والله العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكاً وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلاً فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي على الأرض فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» قالوا وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى أمسى وليلته حتى أصبح وصدر يومه حتى آذتهم الشمس فنزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً وإنما فعل ذلك ليشتغل الناس عن حديث عبد الله بن أبي الذي كان منه بالأمس ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال لها نقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها وضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بالليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة» فقيل من هو‏؟‏ قال «رفاعة بن زيد بن التابوت» فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم بمكان ناقته ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال «ما أزعم أني أعلم الغيب ولا أعلمه ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة» فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال فجاؤوا بها فآمن ذلك المنافق وحسن إيمانه فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات في ذلك اليوم وكان من عظماء اليهود وكهفاً للمنافقين فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال زيد بن أرقم جلست في البيت لما بي من الهم والحياء فأنزل الله عز وجل سورة المنافقين في تصديق زيد بن أرقم وتكذيب عبد الله بن أبي فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن زيد وقال «يا زيد إن الله قد صدقك وأوفى بإذنك» ‏(‏ق‏)‏ عن زيد بن أرقم قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لا تنفقوا عليّ من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله بتصديقي إذا جاءك المنافقون قال ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لم قال فلووا رؤوسهم وقوله كأنهم خشب مسندة قال كانوا رجالاً أجمل شيء» ‏(‏ق‏)‏ عن جابر قال

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا‏}‏ أي يتفرقوا عنه ‏{‏ولله خزائن السموات والأرض‏}‏ يعني بيده مفاتيح الرزق فلا يعطي أحد أحداً شيئاً إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته ‏{‏ولكن المنافقين لا يفقهون‏}‏ يعني أن أمر الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ‏{‏يقولون لئن رجعنا إلى المدينة‏}‏ يعني من غزوة بني المصطلق ‏{‏ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏ فرد الله عليهم بقوله ‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ فعزة الله تعالى قهره وغلبته على من دونه وعزة رسوله صلى الله عليه وسلم إظهار دينه على الأديان كلها وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم ‏{‏ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏ أي ذلك لو علموا ما قالوا هذه المقالة قال أصحاب السير فلما نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول لم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات على نفاقه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم‏}‏ أي لا تشغلكم ‏{‏أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله‏}‏ يعني عن الصلوات الخمس والمعنى لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم كما شغلت المنافقين عن ذكر الله ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ أي ومن شغله ماله وولده عن ذكر الله ‏{‏فأولئك هم الخاسرون‏}‏ أي في تجارتهم حيث آثروا الفاني على الباقي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وأنفقوا مما رزقناكم‏}‏ قال ابن عباس يريد زكاة الأموال ‏{‏من قبل أن يأتي أحدكم الموت‏}‏ أي دلائل الموت ومقدماته وعلاماته فيسأل الرجعة ‏{‏فيقول رب لولا أخرتني‏}‏ أي هلا أمهلتني وقيل لو أخرت أجلي ‏{‏إلى أجل قريب فأصدق‏}‏ أي فأزكي مالي ‏{‏وأكن‏}‏ وقرئ وأكون ‏{‏من الصالحين‏}‏ أي المؤمنين وقيل نزلت هذه الآية في المنافقين ويدل على هذا أن المؤمن لا يسأل الرجعة وقيل نزلت في المؤمنين والمراد بالصلاح هنا الحج قال ابن عباس‏:‏ ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤد زكاته أو أطاق الحج ولم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت وقرأ هذه الآية ‏{‏وأن من الصالحين‏}‏ أي أحج وأزكي ‏{‏ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها‏}‏ يعني أنه تعالى لا يؤخر من حضر أجله وانقضت مدته ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ يعني أنه لو رد إلى الدنيا وأجيب إلى ما سأل ما حج وما زكى وقيل هو خطاب شائع لكل عامل عملاً من خير أو شر، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة التغابن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يسبح له ما في السموات والأرض وما في الأرض له الملك وله الحمد‏}‏ يعني أنه تعالى متصرف في ملكه كيف يشاء تصرف اختصاص لا شريك له فيه وله الحمد لأن أصول النعم كلها منه وهو الذي يحمد على كل حال فلا محمود في جميع الأحوال إلا هو ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء كما يشاء بلا مانع ولا مدافع ‏{‏هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله تعالى خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً ‏(‏م‏)‏ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لهم وهم في أصلاب آبائهم» ‏(‏ق‏)‏ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «وكل الله بالرحم ملكاً فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الزرق فما الأجل فيكتب ذلك وهو في بطن أمه» وقال جماعة في معنى الآية إن الله تعالى خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا لأن الله ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم فقال فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم اختلفوا في تأويلها فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة وقال عطاء بن أبي رباح فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب وقيل فمنكم كافر أي بأن الله خلقه وهم الدهرية وأصحاب الطبائع ومنكم مؤمن أي بأن الله خلقه وجملة القول فيه أن الله تعالى خلق الكافر وكفره فعلاً له وكسباً وخلق المؤمن وإيمانه فعلاً له وكسباً فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله وبمشيئته فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختال الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه هذا طريق أهل السنة فمن سلك هذا أصاب الحق وسلم من مذهب الجبرية والقدرية ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ أي أنه عالم بكفر الكافر وإيمان المؤمن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏4‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم‏}‏ أي إنه أتقن وأحكم صوركم على وجه لا يوجد مثله في الحسن والمنظر من حسن القامة والمناسبة في الأعضاء وقد علم بهذا أن صورة الإنسان أحسن صورة وأكملها ‏{‏وإليه المصير‏}‏ أي المرجع في القيامة ‏{‏يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور‏}‏ معناه أنه لا تخفى عليه خافية فاستوى في علمه الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم‏}‏ يخاطب كفار مكة ‏{‏نبأ الذين كفروا من قبل‏}‏ يعني خبر الأمم الخالية ‏{‏فذاقوا وبال أمرهم‏}‏ أي جزاء أعمالهم وهو ما لحقهم من العذاب في الدنيا ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏ذلك‏}‏ أي الذي نزل بهم من العذاب ‏{‏بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا‏}‏ معناه أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشراً وذلك لقلة عقولهم وسخافة أحلامهم ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً ‏{‏فكفروا‏}‏ أي جحدوا وأنكروا ‏{‏وتولوا‏}‏ أي أعرضوا ‏{‏واستغنى الله‏}‏ أي عن إيمانهم وعبادتهم ‏{‏والله غني‏}‏ أي عن خلقه ‏{‏حميد‏}‏ أي في أفعاله ثم أخبر الله تعالى عن إنكارهم البعث

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 13‏]‏

‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏7‏)‏ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏10‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏12‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل‏}‏ أي قل لهم يا محمد ‏{‏بلى وربي لتبعثن‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏ثم لتنبؤن‏}‏ أي لتخبرن ‏{‏بما عملتم وذلك على الله يسير‏}‏ أي أمر البعث والحساب يوم القيامة ‏{‏فآمنوا بالله ورسوله‏}‏ لما ذكر حال الأمم الماضية المكذبة وما نزل بهم من العذاب قال فآمنوا أنتم بالله ورسوله لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة ‏{‏والنور الذي أنزلنا‏}‏ يعني القرآن سماه نوراً لأنه يهتدى به في ظلمات الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمة ‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ يعني أنه مطلع عليكم عالم بأحوالكم جميعاً فراقبوه وخافوه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يوم يجمعكم ليوم الجمع‏}‏ يعني يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين ‏{‏ذلك يوم التغابن‏}‏ من الغبن وهو فوت الحظ والمراد في المجازاة والتجارة وذلك أنه إذا أخذ الشيء بدون قيمته فقد غبن والمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة وذلك لأن كل كافر له أهل ومنزل في الجنة لو أسلم فيظهر يومئذ غبن كل كافر يتركه الإيمان ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وقيل إن قوماً في النار يعذبون وقوماً في الجنة ينعمون فلا غبن أعظم من هذا وقل هو غبن المظلوم للظالم لأن المظلوم مغبون في الدنيا فصار في الآخرة غابناً لظالمة وأصل الغبن في البيع والشراء وقد ذكر الله في حق الكافرين «انهم خسروا وغبنوا في شرائهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة‏}‏ وقال في حق المؤمنين ‏{‏هل أدلكم على تجارة‏}‏ وقال ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ فخسرت صفقة الكافرين وربحت صفقة المؤمنين ‏{‏ومن يؤمن بالله‏}‏ على ما جاءت به الرسل من الإيمان بالبعث والجنة والنار ‏{‏ويعمل صالحاً‏}‏ أي في إيمانه إلى أن يموت على ذلك ‏{‏يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم والذين كفروا‏}‏ أي بوحدانية الله وقدرته ‏{‏وكذبوا بآياتنا‏}‏ أي الدالة على البعث ‏{‏أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله‏}‏ أي بقضاء الله وقدره وإرادته ‏{‏ومن يؤمن بالله‏}‏ أي يصدق أنه لا يصيبه مصيبة من موت أو مرض أو ذهاب مال ونحو ذلك إلا بقضاء الله وقدره وإذنه ‏{‏يهد قلبه‏}‏ أي يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم لقضاء الله تعالى وقدره وقيل يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء ‏{‏والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله‏}‏ أي فيما أمر ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ أي فيما جاء به عن الله وما أمركم به ‏{‏فإن توليتم‏}‏ أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه ‏{‏فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو‏}‏ أي لا معبود ولا مقصود إلا هو ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم‏}‏ عن ابن عباس قال هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم‏}‏ الآية أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعنه قالوا لهم صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة فقال تعالى فاحذروهم أي أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة ‏{‏وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا‏}‏ هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر ثم هاجر فرأى الذين قد سبقوه بالهجرة فقد فقهوا في الدين فهم أن يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه ومنعوه عن الهجرة لما لحقوا به ولا ينفق عليهم ولا يصيبهم بخير فأمره الله بالعفو والصفح عنهم وقال عطاء بن يسار نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وكان ذا أهل وولد فإذا أراد أن يغزو بكوا عليه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرق عليهم فيقيم فأنزل الله تعالى إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم بحملهم إياكم على ترك طاعة الله فاحذروهم أي أن تقبلوا منهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أي فلا تعاقبوهم على خلافكم ‏{‏فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏ أي بلاء واختبار وشغل عن الآخرة وقد يقع الإنسان بسببهم في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام وغصب مال الغير ونحو ذلك ‏{‏والله عنده أجر عظيم‏}‏ يعني الجنة والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب أولادكم ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم قال بعضهم لما ذكر الله العداوة أدخل من للتبعيض فقال إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم لأنهم كلهم ليسوا بأعداء ولم يذكر من في قوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنهم لم يخلوا من الفتنة واشتغال القلب بهم وكان عبد الله بن مسعود يقول لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى أهل ومال وولد إلا يشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن‏.‏

عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ أي ما أطقتم وهذه الآية ناسخة لقوله ‏{‏اتقوا الله حق تقاته‏}‏ ‏{‏واسمعوا وأطيعوا‏}‏ أي لله ولرسوله فيما يأمركم به وينهاكم عنه ‏{‏وأنفقوا‏}‏ أي من أموالكم حق الله الذي أمركم به ‏{‏خيراً لأنفسكم‏}‏ أي ما أنفقتم في طاعة الله ‏{‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ تقدم تفسيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إن تقرضوا الله قرضاً حسناً‏}‏ القرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيبة نفس يعني إن تقرضوا أي تنفقوا في طاعة الله متقربين إليه بالإنفاق ‏{‏يضاعفه لكم‏}‏ أي يجزكم بالضعف إلى سبعمائة إلى ما يشاء من الزيادة ‏{‏ويغفر لكم والله شكور‏}‏ يعني يحب المتقربين إليه ‏{‏حليم‏}‏ أي لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم ‏{‏عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم‏}‏ والله أعلم‏.‏

سورة الطلاق

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏ نادى النبي صلى الله عليه وسلم ثم خاطب أمته لأنه المقدم عليهم فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب وقيل معناه يا أيها النبي قل لأمتك فأضمر القول إذا طلقتم النساء أي إذا أردتم تطليقهن ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ أي لزمان عدتهن وهو الطهر لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها وتحصل في العدة عقيب الطلاق فلا يطول عليها زمان العدة وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن فطلقوهن في قبل عدتهن وهذا في المدخول بها لأن غير المدخول بها لا عدة عليها نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» زاد في رواية «كان عبد الله طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي رواية لمسلم «إنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً» ولمسلم من حديث أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل عمر وأبو الزبير يسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً فقال «طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعها فردها وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن»‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم وإن شاء طلق قبل أن يمس، والطلاق السني أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض أو طلق الصغيرة التي لم تحض أو الآيسة بعد ما جامعها أو طلق الحامل بعد ما جامعها أو طلق التي لم تر الدم لا يكون بدعياً ولا سنة، ولا بدعة في طلاق هؤلاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً»

والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعياً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته قبل أن يعرف حالها ولولا جوازه في جميع الأحوال لأمره أن يتعرف الحال؛ ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصداً عصى الله تعالى ووقع الطلاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة فلولا وقوع الطلاق لم يأمره بالمراجعة، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في حال الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس كما رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر ولم يقولا ثم تحيض ثم تطهر وما رواه نافع عن ابن عمر ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فأمر استحباب استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا تكون مراجعته إياها للطلاق كما أنه يكره النكاح للطلاق، ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث عند بعض أهل العلم فلو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثاً لا يكون بدعياً وهو قول الشافعي وأحمد وذهب بعضهم إلى أنه بدعة وهو قول مالك وأصحاب الرأي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحصوا العدة‏}‏ أي عدة أقرائها فاحفظوها؛ قيل أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً، وقيل للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى ‏{‏واتقوا الله ربكم‏}‏ أي واخشوا الله ولا تعصوه فيما أمركم به ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ يعني إذا كان المسكن الذي طلقها فيه الزوج له بملك أو إكراء وإن كان عارية فارتجعت كان على الزوج أن يكري لها منزلاً غيره ولا يجوز للزوج أن يخرج المرأة من المسكن الذي طلقها فيه ‏{‏ولا يخرجن‏}‏ يعني ولا يجوز للمرأة أن تخرج ما لم تنقض عدتها لحق الله تعالى فإن خرجت لغير ضرورة أثمت فإن وقعت ضرورة بأن خافت هدماً أو غرقاً جاز لها أن تخرج إلى منزل آخر وكذلك إذا كان لها حاجة ضرورية من بيع غزل أو شراء قطن جاز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً، يدل على ذلك أن رجالاً استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم نستوحش في بيوتنا فأذن لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالة جابر وقد كان طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها فإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة وراجعة والبدوية تتبوأ حيث يتبوأ أهلها في العدة لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الفاحشة المبينة بذاءتها على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقيل أراد بالفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منزلها يروى ذلك عن ابن مسعود وقيل معناه إلا أن يطلقها على نشوزها فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة النشوز وقيل خروجها قبل انقضاء عدتها فاحشة ‏{‏وتلك حدود الله‏}‏ يعني ما ذكر من سنة الطلاق وما بعده من الأحكام ‏{‏ومن يتعد حدود الله‏}‏ أي فيطلق لغير السنة أو تجاوز هذه الأحكام ‏{‏فقد ظلم نفسه‏}‏ أي ضر نفسه ‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏ أي يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة حتى إذا ندم أمكنه المراجعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن أجلهن‏}‏ أي إذا قربن من انقضاء عدتهن ‏{‏فأمسكوهن‏}‏ أي راجعوهن ‏{‏بمعروف أو فارقوهن بمعروف‏}‏ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهم فيبن منكم ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ أي على الرجعة وعلى الفراق أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق‏.‏

عن عمران بن حصين أنه سئل عن رجل يطلق امرأته ثم يقع عليها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد‏.‏ أخرجه أبو داود وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كما في قوله وأشهدوا إذا تبايعتم وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة وفائدة هذا الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها وأن لا يموت أحد الزوجين فيدعي الآخر ثبوت الزوجية ليرث؛ وقيل أمر بالإشهاد للاحتياط مخافة أن تنكر الزوجة المراجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجاً غيره ‏{‏وأقيموا الشهادة‏}‏ يعني أيها الشهود ‏{‏لله‏}‏ أي طلباً لمرضاة الله وقياماً بوصيته والمعنى اشهدوا بالحق وأدوها على الصحة ‏{‏ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجاً‏}‏ قيل معناه ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجاً إلى الرجعة‏.‏

وقال أكثر المفسرين‏:‏ نزلت في عوف بن مالك أسر ابن له يسمى مالكاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أسر العدو ابني وشكا إليه أيضاً فاقة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب منهم إبلاً وجاء بها إلى أبيه‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ غفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة فنزلت ‏{‏ومن يتق الله يجعل له مخرجاً‏}‏ أي في ابنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏ يعني ما ساق من الغنم وقيل أصاب غنماً ومتاعاً ثم رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر وسأله أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم ونزلت الآية وقال ابن مسعود ومن يتق الله يجعل له مخرجاً من كل شيء ويرزقه من حيث لا يحتسب هو أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله رازقه وقال الربيع بن خثيم يجعل له محرجاً من كل شيء ضاق على الناس وقيل محرجاً من كل شدة وقيل مخرجاً عما نهاه الله عه ‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏ يعني من يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» ‏{‏إن الله بالغ أمره‏}‏ أي منفذ أمره وممض في خلقه ما قضاه ‏{‏قد جعل الله لكل شيء قدراً‏}‏ أي جعل لكل شيء من شدة أو رخاء أجلاً ينتهى إليه وقال مسروق في هذه الآية إن الله بالغ أمره توكل عليه أم لم يتوكل عليه غير أن المتوكل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واللائي يئسن من المحيض من نسائكم‏}‏ قيل لما نزلت ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري يا رسول الله فما عدة من تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏واللائي يئسن من المحيض من نسائكم‏}‏ يني القواعد اللاتي قعدن عن الحيض فلا يرجى أن يحضن وهن العجائز الآيسات من الحيض ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ أي شككتم في حكمهن ولم تدروا ما عدتهن ‏{‏فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن‏}‏ يعني الصغائر اللاتي لم يحضن بعد فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر أما الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغ سن الآيسات فذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة أقراء وتبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر وهذا قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن عمر أنها تتربص تسعة أشهر فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر وهو قول مالك وقال الحسن تتربص سنة فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر وهذا كله في عدة الطلاق وأما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشر سواء كانت ممن تحيض أو لا تحيض وأما الحامل فعدتها بوضع الحمل سواء طلقها زوجها أو مات عنها وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ «عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها ما لي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح وأنت والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حتى أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي» لفظ البخاري ولمسلم نحوه وزاد قال ابن شهاب ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنها لا يقربها زوجها حتى تطهر ‏{‏ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً‏}‏ أي يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة ‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك ذكر من الأحكام ‏{‏أمر الله أنزله إليكم‏}‏ أي لتعلموا به ‏{‏ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أسكنوهن‏}‏ يعني مطلقات نسائكم ‏{‏من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏ أي من سعتكم وطاقتكم فإن كان موسراً يوسع عليها في المسكن والنفقة وإن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة ‏{‏ولا تضاروهن‏}‏ أي لا تؤذوهن ‏{‏لتضيقوا عليهن‏}‏ يعني في مساكنهن فيخرجن ‏{‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏}‏ أي فيخرجن من عدتهن‏.‏

‏(‏فصل‏:‏ في حكم الآية‏)‏

اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة ونعني بالسكنى مؤنة السكنى فإن كانت الدار التي طلقها الزوج فيها ملك الزوج يجب عليه أن يخرج منها ويترك الدار لها مدة عدتها وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكتري لها داراً تسكنها وأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلاق الثلاث أو باللعان فلها السكنى حاملاً كانت أو غير حامل عند أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس أنه قال لا سكنى لها إلا أن تكون حاملاً وهو قول الحسن والشعبي‏.‏

واختلفوا في نفقتها فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً، يروى ذلك، عن ابن عباس وهو قول الحسن والشعبي وبه قال الشافعي وأحمد ومنهم من أوجبها بكل حال يروى ذلك عن ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق النفقة إلا أن تكون حاملاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏}‏ وأما الدليل على ذلك من السنة فما روي عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها «ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي فاعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده فإذا حللت فآذنيني» قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد فكرهته ثم قال انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيراً واغتبطت به» أخرجه مسلم واحتج بهذا الحديث من لم يجعل لها سكنى وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت عبد الله بن أم مكتوم ولا حجة له فيه لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها وقال سعيد بن المسيب إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها وكان في لسانها ذرابة‏:‏ وأما المعتدة عن وطء الشهبة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملاً وأما المعتدة عن وفاة الزوج فلا نفقة لها عند أكثر أهل العلم وروي عن علي أن لها النفقة إن كانت حاملاً من التركة حتى تضع وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري‏.‏

واختلفوا في سكناها وللشافعي فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا سكنى لها بل تعتد حيث تشاء وهو قول علي وابن عباس وعائشة وبه قال عطاء والحسن وهو قول أبي حنيفة‏.‏

والثاني‏:‏ أن لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك والثوري وأحمد وإسحاق‏.‏

واحتج من أوجب لها السكنى بما روي عن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري «أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً قالت فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» أخرجه أبو داود والترمذي، فمن قال بهذا القول قال إذنه لفريعة أولاً بالرجوع صار منسوخاً بقوله آخراً «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» ومن لم يوجب السكنى قال أمرها بالمكث في بيتها آخراً استحباباً لا وجوباً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن لكم‏}‏ يعني أولادكم ‏{‏فآتوهن أجورهن‏}‏ يعني على إرضاعهن، وفيه دليل على أن اللبن وإن كان قد خلق لمكان الولد فهو ملك للأم وإلا لم يكن لها أن تأخذ عليه أجراً وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد ‏{‏وأتمروا بينكم بمعروف‏}‏ أي ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف وقيل يتراضى الأب والأم على أجر مسمى والخطاب للزوجين جميعاً أمرهم أن يأتوا بالمعروف وما هو الأحسن ولا يقصدوا الضرار، وقيل المعروف هاهنا لا أن يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا المرأة في حق الولد ورضاعه ‏{‏وإن تعاسرتم‏}‏ أي في حق الولد وأجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه بل يستأجر للصبي مرضعاً غير أمه وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته‏}‏ أي على قدر غناه ‏{‏ومن قدر‏}‏ أي ضيق ‏{‏عليه رزقه‏}‏ فكان بمقدار القوت ‏{‏فلينفق مما آتاه الله‏}‏ أي على قدر ما آتاه الله من المال ‏{‏لا يكلف الله نفساً‏}‏ أي في النفقة ‏{‏إلا ما آتاها‏}‏ يعني من المال والمعنى لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني في النفقة ‏{‏سيجعل الله بعد عسر يسراً‏}‏ أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وكأين من قرية عتت‏}‏ أي عصت وطغت والمراد أهل القرية ‏{‏عن أمر ربها ورسله‏}‏ أي وأمر رسله ‏{‏فحاسبناها حساباً شديداً‏}‏ أي بالمناقشة والاستقصاء وقيل حاسبها بعملها في الكفر فجزاها النار وهو قوله ‏{‏وعذبناها عذاباً نكراً‏}‏ أي منكراً فظيعاً وقيل في الآية تقديم وتأخير مجازها فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر أنواع البلاء وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً ‏{‏فذاقت وبال أمرها‏}‏ أي شدة أمرها وجزاء كفرها ‏{‏وكان عاقبة أمرها خسراً‏}‏ أي خسراناً في الدنيا والآخرة ‏{‏أعد الله لهم عذاباً شديداً‏}‏ يخوف كفار مكة أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية ‏{‏فاتقوا الله يا أولي الألباب‏}‏ أي يا ذوي العقول ثم نعتهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكراً‏}‏ يعني القرآن ‏{‏رسولاً‏}‏ أي وأرسل إليكم رسولاً ‏{‏يتلوا عليكم آيات الله مبينات‏}‏ قرئ مبينات بالخفض أي تبين الحلال من الحرام والأمر والنهي وقرئ بالنصب ومعناه أنها واضحات ‏{‏ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور‏}‏ أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم ‏{‏ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتا الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً‏}‏ يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل يرزقون طاعة في الدنيا وثواباً في الآخرة ‏{‏الله الذي خلق سبع سموات‏}‏ يعني بعضها فوق بعض ‏{‏ومن الأرض مثلهن‏}‏ أي في العدد ‏{‏يتنزل الأمر بينهن‏}‏ أي الوحي إلى خلقه من السماء العليا إلى الأرض السفلى وقيل هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره ينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار وبالصيف والشتاء ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاته وينقله من حال إلى حال فيحكم بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك هذا، وقيل في كل سماء من سمواته وأرض من أرضيه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه ‏{‏لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية وأنه قادر على الإنشاء بعد الإفناء وكل الكائنات جارية تحت قدرته داخلة في علمه والله تعالى أعلم‏.‏

سورة التحريم

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم‏}‏ ذكر سبب نزولها، ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت أما أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له يا رسول الله أكلت مغافير فإنه سيقول لا فقولي ما هذه الريح التي أجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل فقولي له جرست نحله العرفط وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفية ذلك فلما دخل على سودة قالت تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب فرقاً منك فلما دنا منها قالت له سودة يا رسول الله أكلت مغافير‏؟‏ قال لا قالت فما هذه الريح التي أجد منك‏؟‏ قال سقتني حفصة شربة عسل قال جرست نحله العرفط فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ثم دخل على صفية فقالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت له يا رسول الله ألا أسقيك منه‏؟‏ قال لا حاجة لي فيه قالت تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه قلت لها اسكتي» ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له» فنزلت ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن تتوبا إلى الله‏}‏ لعائشة وحفصة ‏{‏وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً‏}‏ لقوله «بل شربت عسلاً ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً» زاد في رواية «يبتغي بذلك مرضاة أزواجه»‏.‏

‏(‏شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما‏)‏

قولها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل الحلواء بالمد وهو كل شيء حلو وذكر العسل بعدها وإن كان داخلاً في جملة الحلواء تنبيهاً على شرفه ومزيته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام قولها في الحديث الثاني فتواطيت أنا وحفصة هكذا ذكر في الرواية وأصله فتواطأت أي اتفقت أنا وحفصة قولها إني لأجد منك ريح مغافير هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء وهو صمغ حلو كالناطف وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط بضم العين المهملة وبالفاء يكون بالحجاز وقيل العرفط نبات له ورق عريض يفرش على الأرض له شوكة وثمره خبيث الرائحة، وقال أهل اللغة العرفط من شجر العضاه وهو كل شجر له شوك، وقيل رائحته كرائحة النبيذ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه رائحة كريهة قولها جرست نحله العفرط هو بالجيم والراء وبالسين المهملتين ومعناه أكلت نحله العرفط فصار منه العسل قولها في الحديث الثاني فقال شربت عسلاً عند زينب بنت جحش وفي الحديث الأول أن الشرب كان عند حفصة بنت عمر بن الخطاب وأن عائشة وسودة وصفية هن اللواتي تظاهرن عليه قال القاضي عياض والصحيح الأول قال النسائي إسناد حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج صحيح حيد غاية وقال الأصيلي حديث حجاج أصح وهو أولى بظاهر كتاب الله وأكمل فائدة يريد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تظاهرا عليه‏}‏ وهما ثنتان لا ثلاثة وأنهما عائشة وحفصة كما اعترف به عمر في حديث ابن عباس وسيأتي الحديث قال وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى يعني الحديث الأول الذي فيه أن الشرب كان عند حفصة قال القاضي عياض‏:‏ والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم وكذا ذكره القرطبي أيضاً وقال المفسرون في سبب النزول

«إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة وخلا بها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي فقال ما يبكيك‏؟‏ قالت إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي أما رأيت لي حرمة وحقاً ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية وقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي بها صلى الله عليه وسلم فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها»

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏ أي بين وأوجب لكم تحليل أيمانكم بالكفارة وهو ما ذكر في سورة المائدة فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويراجع أمته فأعتق رقبة ‏{‏والله مولاكم‏}‏ أي وليكم وناصركم ‏{‏وهو العليم‏}‏ أي بخلقه ‏{‏الحكيم‏}‏ أي فيما فرض من حكمه‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

اختلف العلماء في لفظ التحريم فقيل ليس هو بيمين فإن قال لزوجته أنت علي حرام أو قال حرمتك فإن نوى طلاقاً فهو طلاق وإن نوى ظهاراً فظهار وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقاً عتقت وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين وإن قال لطعام حرمته على نفسي فلا شيء عليه وهذا قول أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين وإليه ذهب الشافعي وإن لم ينو شيئاً ففيه قولان للشافعي أحدهما أنه يلزمه كفارة اليمين، والثاني لا شيء عليه وأنه لغو فلا يترتب عليه شيء من الأحكام وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف أن لا يطؤها وإن حرم طعاماً فهو كما لو حلف أن لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» وفي رواية «إذا حرم امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» لفظ الحميدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً‏}‏ يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم مارية على نفسه واستكتمها ذلك وهو قوله لا تخبري بذلك أحداً وقال ابن عباس أسر أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة قال الكلبي أسر إليها إن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقيل لما رأى الغيرة في وجه حفصة أراد أن يراضيها فسرها بشيئين بتحريم مارية على نفسه وأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر ‏{‏فلما نبأت به‏}‏ أي أخبرت بذلك حفصة عائشة ‏{‏وأظهره الله عليه‏}‏ أي أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على قول حفصة لعائشة ‏{‏عرف بعضه‏}‏ قرئ بتخفيف الراء أي عرف بعض الذي فعلته حفصة فغضب من إفشاء سره وجازاها عليه بأن طلقها فلما بلغ عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بمراجعتها وقيل لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل فقال لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وقرئ عرف بالتشديد، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها ‏{‏وأعرض عن بعض‏}‏ أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به قال الحسن ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلى الله عليه وسلم كره أن ينتشر ذلك في الناس ‏{‏فلما نبأها به‏}‏ أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ‏{‏قالت‏}‏ يعني حفصة ‏{‏من أنبأك هذا‏}‏ أي من أخبرك بأني أفشيت السر ‏{‏قال نبأني العليم‏}‏ أي بما تكنه الضمائر ‏{‏الخبير‏}‏ أي بخفيات الأمور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن تتوبا إلى الله‏}‏ يخاطب عائشة وحفصة أي من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيذاء له ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما أن تتوبا وذلك بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو اجتناب مارية، ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله عز وجل إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما حتى حج عمر وحججت معه فلما كان عمر ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإرادة فتبرز ثم أتاني فصببت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صبلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما قال عمر واعجباً لك يا ابن العباس قال الزهري كره منه ما سأله عنه ولم يكتمه قال هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث قال كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي فغضبت يوماً على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت أتراجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت نعم فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل‏؟‏ قالت نعم قلت لقد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً وسليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك يريد عائشة وكان لي جار من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً ويأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك وكنا نتحدث أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال حدث أمر عظيم قلت ماذا أجاءت غسان‏؟‏ قال لا بل أعظم من ذلك وأهول طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه قلت قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة فأتيت غلاماً له أسود فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ فقال قد ذكرتك له فصمت فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست قليلاً ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبراً فإذا الغلام يدعوني فقال ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه فقلت أطلقت يا رسول الله نساءك فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله قد كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني فأنكرت إذ راجعتني فقالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد دخلت علي حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى فقلت استأنس يا رسول الله قال نعم قال فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا أهبة ثلاثة فقلت يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالساً ثم قال أفي اشك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة لعائشة من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله تعالى» قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت

«لما مضت تسع وعشرون دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بي فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت في ليلة تسع وعشرين أعدهن فقال إن الشهر يكون تسعاً وعشرين زاد في رواية وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين ليلة ثم قال يا عائشة إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ثم قال يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها حتى بلغ إلى قوله عظيماً قالت عائشة قد علم رسول الله والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه فقلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة»

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏عسى ربه‏}‏ أي واجب من الله ‏{‏إن طلقكن‏}‏ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏أن يبدله أزواجاً خيراً منكن‏}‏ ثم وصف الأزواج اللواتي كان يزوجه بهن فقال ‏{‏مسلمات‏}‏ أي خاضعات لله بالطاعة ‏{‏مؤمنات‏}‏ أي مصدقات بتوحيد الله تعالى‏:‏ ‏{‏قانتات‏}‏ أي طائعات وقيل داعيات وقيل مصليات بالليل ‏{‏تائبات‏}‏ أي تاركات للذنوب، لقبحها أو كثيرات التوبة ‏{‏عابدات‏}‏ وكثيرات العبادة ‏{‏سائحات‏}‏ أي صائمات وقيل مهاجرات وقيل يسحن معه حيث ساح ‏{‏ثيبات‏}‏ جمع ثيب وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه ‏{‏وأبكاراً‏}‏ أي عذارى جمع بكر وهذا من باب الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال إن طلقكن وقد علم أنه لا يطلقهن فأخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله أزواجاً خيراً منهن تخويفاً لهن‏.‏